DOWNLOAD
تعتبر قضية بناء الإنسان من أهم القضايا التي تناولها القرآن الكريم، ليس بشكل مجرد، بل بمنهجية فقهية عميقة وشاملة تُعنى بكل جوانب الوجود الإنساني: الروحية، العقلية، الأخلاقية، والاجتماعية. يمكننا أن نسمي ذلك "فقه بناء الإنسان في القرآن"، وهو بمثابة خريطة طريق متكاملة لإنشاء الفرد الصالح والمجتمع القويم.
مرتكزات فقه بناء الإنسان في القرآن:
العقيدة الصحيحة (التوحيد):
- الأساس: يبدأ القرآن ببناء أساس الإيمان، وهو توحيد الله تعالى بجميع أنواعه: توحيد الربوبية (الله الخالق المدبر)، توحيد الألوهية (الله المستحق للعبادة وحده)، وتوحيد الأسماء والصفات (الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلا).
- الأثر: هذا التوحيد يحرر الإنسان من العبودية لغير الله، ويمنحه العزة والكرامة، ويُشعره بالطمأنينة واليقين، ويُقوي عزيمته ويُبعد عنه الخوف من المخلوقات.
- الآيات الدالة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].
العبادة الصحيحة (غاية الوجود):
- الأساس: يؤكد القرآن أن الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله، وتشمل هذه العبادة كل جوانب الحياة، لا تقتصر على الشعائر التعبدية فقط.
- الأثر: العبادة تُربط الإنسان بخالقه، وتُزكي نفسه، وتُطهر قلبه، وتُقوِّم سلوكه. الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تُطهر الأموال وتُنميها، والصيام يُنمي التقوى والصبر، والحج يُعلم التواضع والوحدة.
- الآيات الدالة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
الأخلاق الفاضلة (لبنة المجتمع):
- الأساس: يُركز القرآن بشكل كبير على الأخلاق الحميدة كالمعادلة العظمى لبناء الفرد والمجتمع. فهو يُرسخ قيم الصدق، الأمانة، العدل، الإحسان، التواضع، العفو، الصبر، الشكر، وغيرها.
- الأثر: الأخلاق تُعزز الروابط الاجتماعية، وتُحقق السلام الداخلي، وتُقلل من الصراعات، وتُسهم في بناء مجتمع متراحم ومتعاون.
- الآيات الدالة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ} [النحل: 90]، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
العقل والتفكير (التدبر والتفكر):
- الأساس: يدعو القرآن مراراً وتكراراً إلى التفكر والتدبر في آيات الله الكونية والقرآنية، ونبذ التقليد الأعمى. يُعلي من شأن العلم والمعرفة.
- الأثر: يُنمي القدرة على التحليل، والنقد البناء، والاستنتاج الصحيح، ويُحرر العقل من الخرافات والأوهام، ويُشجع على البحث والاكتشاف.
- الآيات الدالة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190]، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82].
الاستقامة على منهج الله (الاعتدال والوسطية):
- الأساس: يُعلم القرآن أن الإسلام دين الفطرة والوسطية، لا إفراط فيه ولا تفريط. يدعو إلى الاستقامة على الصراط المستقيم.
- الأثر: يُجنب الإنسان الغلو والتشدد، ويُبعده عن التهاون والتفريط، ويُحقق له التوازن في حياته بين مطالب الروح والجسد، والدنيا والآخرة.
- الآيات الدالة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].
التكافل الاجتماعي (البناء المجتمعي):
- الأساس: يُشجع القرآن على التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع، ويُحارب الفقر، ويُقيم العدل الاجتماعي، ويُرسخ مبدأ الأخوة الإنسانية.
- الأثر: يُقوي النسيج الاجتماعي، ويُقلل من الفوارق الطبقية، ويُحقق الأمن والاستقرار، ويُعزز الشعور بالانتماء والمسؤولية المشتركة.
- الآيات الدالة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ} [المائدة: 2]، آيات الصدقات والزكاة والإنفاق في سبيل الله.
الجهاد والنضال (للحق والعدل):
- الأساس: يُبين القرآن أن بناء الإنسان لا يكتمل إلا بالجهاد في سبيل الله، سواء كان جهاداً للنفس، أو جهاداً للدعوة إلى الحق، أو جهاداً للدفاع عن الدين والأمة.
- الأثر: يُنمي الشجاعة، والتضحية، والصبر، والثبات، ويُحافظ على كرامة الأمة وعزتها.
- الآيات الدالة: آيات الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس.
خصائص فقه بناء الإنسان في القرآن:
- الشمولية: يُعالج كل جوانب الإنسان: عقلاً، روحاً، وجسداً.
- التوازن: يُوازن بين متطلبات الدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع.
- الواقعية: يُخاطب الإنسان بواقعه وطبيعته، ولا يطالبه بما لا يُطيق.
- الفطرية: يُوافق الفطرة السليمة للإنسان، ويُلبي حاجاته الأساسية.
- الاستمرارية: عملية بناء الإنسان في القرآن هي عملية مستمرة لا تتوقف.
إن فقه بناء الإنسان في القرآن الكريم هو دعوة مفتوحة لكل فرد ومجتمع ليُعيد بناء نفسه على أساس الوحي الإلهي، لينعم بالخير في الدنيا والآخرة.
.jpg)
